ديموقراطية القراءة – بقلم عبد الحكيم بن لطرش -
كثيرا ما يُطرح علي السؤال
التالي " لماذا نقرأ؟ وهل نستفيد حقا من القراءة؟"
في السابق، لم أكن أجيب عن
هذا السؤال، لم أكن أعتبره سؤالاً يستحق الإجابة وأجد فيه نوعاً من الاستخفاف فكنت
أقارنه بأسئلة مثل " هل النوم مفيد؟، لماذا نأكل؟ ... أو حتى لماذا السماء
زرقاء اللون؟ "
لكن اليوم، أصبحت أعتبر هذا
السؤال عاديًّا جدًّا، يمكن لأنني فهمت مغزى السؤال... لا أعرف، كل ما أعرفه أنني
لم أعد أنزعج عند سماعي لهذا النوع من الأسئلة.
أصبحنا اليوم نبحث عن
"الربح" في كل ما نقوم به، استخدمت مصطلح الربح قاصدًا المنفعة خاصة
المادية منها. أعتقد فعلاً أن الربح المادي بات يُهمنا أكثر من أي منفعة أخرى،
وبغض النظر عن الربح المادي، أصبح للربح الملموس أهمية كبيرة فإذا اشترينا معطفاً
جديدًا، يجب أن نتحصل على إعجاب من طرف الجميع وإلاّ فلا منفعة من ذلك المعطف،
وإذا ذهبنا برفقة أصدقاء إلى مطعم ما، نُسارع بإخراج هواتفنا لأخذ صور تُذكرنا لا
بالأصدقاء بل بالأطباق التي نتناولها.
آسف، ابتعدت قليلا عن
موضوعنا، لنعود إلى السؤال من جديد: لماذا نقرأ؟
أعتقد أننا نقرأ لنستمتع،
نقرأ لنُغذّي حواسنا ونُشبع حاجتنا إلى الدهشة. نقرأ لنفهم الأشياء البسيطة التي
بتنا نتغاضى عنها كثيرا. نقرأ لنحترم الآخر مهما كانت جنسيته، لونه، أو أصله. نقرأ
كي نعيد النظر في المصطلحات التي نستعملها وفي الكلمات التي نكتبها. نقرأ لنستعيد
فضولنا الطفولي فنتمعن في حركة العصافير، رقصة وريقات الشجر ونتمعن في
السماء فنعرف لماذا لونها أزرق!
أما عن السؤال الآخر "
هل نستفيد من القراءة؟ "
طبعا نستفيد من الكتب التي
نقرأها وهذه الفائدة تختلف باختلاف أهداف القراء فهنالك من يقرأ ليستمتع بأسلوب
الكاتب، وهنالك من يقرأ ليُطور من مستواه اللغوي وآخر يقرأ ليكتشف ويتعرف على
حضارات مختلفة.
أما أنا فمؤخرا وبعد قراءتي
لكتاب بعنوان- متعة القراءة- للكاتب دانييل بناك، لم أعد أركز على أسئلة من هذا
النوع، بل أصبحت أقرأ لأستمتع لا لأُقيَّد بتقييمات أدبية عميقة أو نقدٍ للكتاب،
أبحث في الكتب عن أشياءَ تُشبهني.
على عكس بعض
المنتوجات التي تأتي بنفعها بطريقة مباشرة كمصباح نشتريه فيضيئ الغرفة على الفور،
هنالك منتوجات أخرى تظهر فوائدها على المدى الطويل كتفاحة نأكلها أو حليب نشربه،
هكذا هي الكتب – لا أُشبه هنا الكتب بالمنتوجات بل استخدم هذا المثال لتتضح الصورة
بسهولة – ، تظهر فوائدها على المدى الطويل، شخصيا لم أكن أعتقد أنني سأستعين
بكتاب قرأته إلى أن سافرت، وتعرضت إلى مشاكل عدّة، لكني لم أشعر بالوحدة البتة لأن
الكتب كانت تصاحبني، فجعلت جبران صديقي، وفيليب كلوديل أخي الكبير، أما إريك
إيمانويل شميت فأصبح لي كاتباً يُخبرني أن الحياة أسهل بكثير مما نعتقد وأنه
بإمكاننا التعايش مع اختلافاتنا.
فالقراءة حرية قبل كل شيء.
تسمح لنا القراءة حرية الذهاب حيث شئنا بلا جواز عبور، فنتنقل كالعصافير من بلدة
إلى بلدة، تذهلنا شوارع باريس المُبللة، تُدهشنا بيروت، نشرب شايا في الإسكندرية
بعد أن نتغذى بكسكس جزائري في صفاقس البهية. هذه هي القراءة التي أحبها، هذه هي
القراءة التي تُحركني وتحييني.
ثم إن فعل القراءة فعل
ديموقراطيٌّ جدا، بحيث يكون للقارئ حرية اختيار نوع الكتاب الذي يشاء، وله الحق
أيضا أن يُغير النوع الأدبي الذي يقرأه متى شاء، فينتقل من الشعر إلى النثر ومن
الرواية إلى القصة ومن الواقع إلى الخيال.
وبعد اختيار الكتاب والنوع
الأدبي، للقارئ الحق في اختيار ملامح الشخصيات، فيُذكره الأمير الصغير بابن
الجيران، ويُذكره الملك لير بجدّه وبلقيس بحبيبته.
وعندما نتحدث عن القراءة،
يجب أن نتحدث عن مكان القراءة، وهنا الاختيار راجع لك أنت أيها القارئ، فبإمكانك
أن تقرأ في المكتبة، أو في وسائل النقل أو أحسن بكثير في غرفتك، فتقرأ بصوت منخفض
تم تمثل مقاطع أخرى، تبتسم ثم تضحك وتحزن ثم تلعن الكاتب لأنك لم تتوقع هكذا نهاية.
تضع الكتاب جانبا، ترمي إليه نظرةً مليئة بالحسرة لأنك أحببت البداية كثيرا ولم
تفهم لماذا قرر الكاتب أن يُنهيه بهذا الشكل الغريب جدا.
ثم قبل كل هذا، فللواحد منا
الحق في اختيار أن يقرأ أو لا، وهنا أستعين بالكلمات التي استهل بها دانييل بيناك
كتابه - متعة القراءة- فيقول
“ لا يحتمل فعل "
قرأ " صيغة الأمر وهو اشمئزاز تشاطره إياه عدة أفعال أخرى كفعل "
أحب" ... و فعل "حَلَمَ"
طبعاً تبقى المحاولة ممكنة،
هيا نحاول " أحبّني!" " اِحلَم!" "اِقرأ!"، أقول لك
أقرأ! العمى! اَمرك بأن تقرأ! ". “